بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 21 أكتوبر 2018

تل مكسور بقلم مصطفي الحاج حسين

تل مكسور ...

                         قصة : مصطفى الحاج حسين .
                                                     
                                                                                 مضى على تعيين الأستاذ ( حمدان العمر ) ،

 أكثر من ثلاث سنوات ، معلما وحيدا في قرية ( تل

 مكسور ) ، دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة ،

 بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في

 الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في

 ( تل مكسور ) ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت

 مكانته  وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من

 عليائه ، ليعمل  في الأرض ، بدافع الحياء والواجب

 أمام الحاح والديه .

          لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ ( أبو

 قاسم ) بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز

 لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر

 صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر

 بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ،

 حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .

         وماكان يغريه في البقاء في ( تل مكسور ) ،

 ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في

 أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه

 المزعوم .

          ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ،

 مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه

 معلماوحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ،

 قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا

 ما كان يتبجح بمقولة ، ( من علمني حرفا ، كنت له

 عبدا ) ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة ( عبد) ، كل

 هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ،

 بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد

 نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ،

 ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ،

 وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل

 الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ،

 ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق

 الدم من لثته الملتهبة .

        إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية

 الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي ( خديجة ) والدة

 تلميذه ( جمعة الخلف ) ، أجمل نساء القرية ،

 الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن

 تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها

 نفرت من كل المحاولات .

        ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ،

 فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على

 وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة

 نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ،

 وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه

 الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب

 على ولدها ( جمعة ) ، فصار يضرب بعد الدلال ..

 رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي

 تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .

        كان الأستاذ ( حمدان ) يقف على الكرسي ،

 يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ

 في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب

 البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ

 المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون

 العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم

 المسكين .

        واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد ( حمدان )

 على تلميذه ( جمعة ) ، وشاهد من خلال النافذة ،

 التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ،

 لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع

 ثمنها منهم ، ولما كان ( جمعة ) بينهم ، اندفع

 ( حمدان ) إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة

 الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من

 الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :

        ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.

          خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه

 ( حمدان ) بنظره الحاقد صوب ( جمعة )  :

        ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله

 سأسحقك .

وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :

         ـ لست أنا .. يا أستاذ !!

         ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به

 سواك .

         ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي

 بصنع الكرة .

وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا

 قدمي ( جمعة )  إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه

 الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في

 أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على

 صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا

 الأرملة .

        تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم

 يسألون :

         ـ ماذا فعل ( جمعة )  .. ؟ .

وكان الصغار يتولون الجواب :

         ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .

        والأستاذ ( حمدان ) منهمك بضرب الصغير ،

 غير عابىء بصراخه وتوسلاته :

        ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .

وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب

 الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه

 الأحداث ، جاءه صوت ( خديجة ) ، الذي يميزه عن

 أصوات نساء الأرض :

        ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة

 الأستاذ ؟!.

فزعق ( حمدان ) بوجهها :

        ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .

       اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع

 الأنفاس  :

        سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات

 عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .

صرخت الأم بانفعال شديد :

      ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ،

 وأية خرقة أخرى ...

زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :

          ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا

 غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين

 ـ  من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..

        اقترب المختار ( أبو قاسم ) ، يرجوه :

        ـ يا أستاذ ( حمدان )  ، هذا ولد .. يجب ألا

 تؤاخذه ، على هذه الغلطة .

صاح ( حمدان ) :

        حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!... والله سأكتب

 تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية ...

... سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب

 أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس

 من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع

 خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن

 لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي

 التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير

 ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في

 الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل

 بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر

 شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم

 المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .

        ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ،

 حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته ..

 بإرباكه .. وصرخ :

        ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة

 ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .

        نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت

 الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من

 دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر

 ( أبو عيشة ) أن يساند ( حمدان ) ، حتى لا يظل

 متعاليا عليه ، لكنه خجل من ( خديجة ) ، أرملة

 ( نايف )  ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .

        تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم

 ( أبو نواف ) ، وطبع قبلة على شارب المعلم ،

 وتشجع  ( أبو ممدوح ) ، فعزم على الجميع ، أن

 يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ...

 هكذا راح يقسم .

        وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد

 ( حمدان ) ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .

كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ،

 مستعطفة ، حتى ( خديجة ) ... تهدجت كلماتها من

 الفزع .. وهي تتمتم :

        ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...

ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو

 يزعق بتلذذ :

        ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن

 الخائن هذا ..

انصعقت ( خديجة ) ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم

 زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ...

 عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ،

 المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير

 ولدها ( جمعة ) في خطر ، فابتلعت الإهانة ،

 وضغطت على جرحها ، وقالت :

        ـ سامحك الله يا أستاذ ( حمدان ) ، لو كنت

 تعرف أي الرجال ، كان ( أبو جمعة ) ، لما اتهمته

 بالخيانة .

        أدرك ( حمدان ) نقطة الضعف عند غريمته ،

 فعزم على تمريغ اسم المرحوم :

        ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .

وهنا فقدت ( خديجة ) رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر

 مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت

 بتجاه      ( حمدان )  :

        ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى

 تقول عن ( أبي جمعة ) جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح

 الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ،

 لتعرف من هو ( أبو جمعة )  ، أنت مجرد نذل ..


حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا

 تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .

        واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد

 أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع  

 ( حمدان ) مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان

 حاضرا ، من أهالي ( تل مكسور ) يد ( خديجة )

 الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ،

 بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .

                         مصطفى الحاج حسين .
                                   حلب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🌹شكراً لك 🌹